Makale

İbn Hazm Endüsülisinin Şiirinde Belağatın Okunması (????? ?????? ?? ??? ??? ??? ????????)

قراءة بلاغية في شعر ابن حزم الأندلسي
(384 - 456ه، 995 - 1063م.)

د/ أحمد إسماعيل حسن علي

ملخص:
يصف كثير من الدارسين شعر ابن حزم بأنه أبيات تخلو من أية صورة فنيه، أو سمة بلاغية، وإنما هي إحالة عقلية موزونة لأفكاره النثرية التي يوردها في المتن النصي؛ لذا فقد تناولت هذه الدراسة بعضًا من النماذج الشعرية لابن حزم؛ لتبين ما لهذا الشعر من أهمية، وتبرز ما فيه من قيمة فنية وبلاغية، وتوضح أن هذا العالم الجليل إلى جانب كونه عالمًا فقيهًا، كان شاعرًا عالمًا بعلوم العربية، ومستخدمًا للأساليب البلاغية.
تمهيد: من هو ابن حزم؟
نسبه وقبيلته:
هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ الفَارِسِيُّ الأَصْل، ثُمَّ الأَنْدَلُسِيُّ القُرْطُبِيُّ، الفَقِيهُ، الحَافِظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَدِيْبُ، الوَزِيرُ، الظَّاهِرِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ. وُلِد أَبُو مُحَمَّدٍ بقرطبة سَنَةَ 384ه/ 994م، وعاش في الأندلس.
طفولته وتربيته:
نشَأَ الإمام ابن حزم فِي تَنَعُّمٍ وَرفَاهيَّة، وَرُزِقَ ذَكاءً مُفرطًا، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ كُبَرَاء أَهْل قُرْطُبَة. ويشير الكثيرون ممن ترجم للشيخ (رحمه الله)، أو درس تاريخه ونشأته أن الشيخ نشأ بين مجموعة من النساء، ومن ثَمَّ كان له من الصفات كذا وكذا. والواقع أن الشيخ (رحمه الله) قد هيَّأ له الله نساءً فُضْلَياتٍ قُمْنَ على تربيته وتعليمه، ونلحظ ذلك من كونه حفظ القرآن على أيديهن، إضافةً إلى ذلك كان والد الشيخ من العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخُلُق.
أهم ملامح شخصيته:
• موسوعي في علمه.
كان ابن حزم (رحمه الله) مفسرًا، محدثًا، فقيهًا، مؤرخًا، شاعرًا، مربيًا، عالمًا بالأديان والمذاهب. ويزداد هذا الأمر وضوحًا باطِّلاعنا على هذا الكمِّ الهائل من مؤلفاته في شتى الميادين العلمية.
• كريم الأخلاق والشمائل.
ذكر الشيخ محمد أبو زهرة (رحمه الله) أن الإمام ابن حزم كان يتصف بالصفات التالية: ( قوة الحافظة، البديهة الحاضرة، عمق التفكير والغوص في الحقائق، الصبر، المثابرة، الإخلاص، الجَلَد، الوفاء، الصراحة في الحق، الاعتزاز بالنفس من غير عُجْبٍ ولا خُيَلاء، ووصف ابن حزم أيضًا بالحِدَّة (رحمه الله –تعالى-).
شيوخه:
سَمِعَ فِي سَنَةِ أَرْبَعمائَة وما َبعدهَا مِنْ طَائِفَةٍ، مِنْهُم: يَحْيَى بن مَسْعُوْدِ بنِ وَجه الجَنَّة، صَاحِب قَاسِم بن أَصْبَغ، فَهُوَ أَعْلَى شَيْخٍ عِنْدَهُ، وَمِنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ الجَسور، وَيُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُغِيْث القَاضِي، وَحُمَامِ بن أَحْمَدَ القَاضِي، وَمُحَمَّدِ بن سَعِيْدِ بنِ نبَات، وَعَبْدِ اللهِ بن رَبِيْع التَّمِيْمِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللهِ بنِ خَالِدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ، وَأَبِي عُمَرَ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الطَّلَمَنْكِي، وَعَبْدِ اللهِ بن يُوْسُفَ بنِ نَامِي، وَأَحْمَد بن قَاسِم بن مُحَمَّدِ بنِ قَاسِم بن أَصْبَغ.
تلاميذه: حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُهُ أَبُو رَافِعٍ الفَضْل، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحُمَيْدِيُّ، وَوَالِد القَاضِي أَبِي بَكْرٍ بنِ العَرَبِيِّ، وَطَائِفَةٌ.
مؤلفاته: لابن حزم مؤلفات جليلة كثيرة، منها:
- (الإِيصَال إلى فَهم كِتَاب الخِصَال) ويقع في خَمْسَةَ عَشَرَ أَلف وَرقَة.
- (الخِصَال الحَافِظ لجمل شرَائِع الإِسْلاَم) مُجَلَّدَان.
- (المُجَلَّى فِي الفِقْه) مُجَلَّد.
- (المُحَلَّى فِي شرح المُجَلَّى بِالحجج وَالآثَار) ويقع في ثَمَانِي مُجَلَّدَات.
- (حَجَّة الوَدَاعِ) مِائَة وَعِشْرُوْنَ وَرقَة.
- (التَّلخيص وَالتَّخليص فِي المَسَائِل النَّظرِيَّة).
- (الإِملاَء فِي شرح المُوَطَّأ) أَلف وَرقَة.
- (الإِملاَء فِي قوَاعد الفِقْه) أَلف وَرقَة أَيْضًا.
- (الإِحكَام لأُصُوْل الأَحكَام) مُجَلَّدَان.
- (الفِصَل فِي الملل وَالنِّحل) مُجَلَّدَان كَبِيْرَان.
- (مُخْتَصَر فِي علل الحَدِيْث) مُجَلَّد.
- (رِسَالَة فِي الطِّبِّ النّبوِيِّ).
ويُعدّ كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي من أروع ما خُط من أدب العصر الوسيط في دراسة الحب، لتحليله لهذه الظاهرة، وأبعادها الإنسانية الواسعة، ولقدرته على سبر طبائع البشر وأغوارهم.
والكتاب هو سيرة ذاتية لكاتبه يماثل حياته العاطفية، فقد جمع ابن حزم ما بين الفكرة بمفهومها الفلسفي وما بين الواقع التاريخي، فكان بذلك محلقًا بأفكاره، وراسخًا على الأرض بقدميه، جريئًا وصريحًا ومتحررًا من الخوف ومن التزمت، وقد دعم أفكاره بحكايات سمعها أو عاشها، واختار لها العديد من أشعاره المناسبة.
ولم يتعرض لذكر طوق الحمامة من مؤلفاته غير المقري في نفح الطيب، وقد ذكر هذا الكتاب ابن القيم الجوزية في غير ما موضع.
شعره:
لقد تمثل في شعر ابن حزم عدة سمات:
منها سمات نفسية، وأخرى ثقافية، وتاريخية، فهو رجل معتد بنفسه، واثق برأيه، مدافع عنه، وهو غزير المعرفة، واسع الثقافة، على علم بالتاريخ وله فيه باع طويل.
ولقد تمثل كل ذلك في شعره الذي يدخل به مع الأدباء والشعراء من أوسع الأبواب؛ فلم يكن ابن حزم عالمًا مبرزًا فقط؛ وإنما كان أديبًا شاعرًا وناثرًا أيضًا، قادته طبيعته الجريئة أن يتحدث بصراحة حتى في مواضيع لم يجرؤ غيره من الفقهاء على الحديث فيها.
لذلك نراه يتحدث عن عاطفة الحب – مثلا- فيفرد لها كتابا مستقلا هو كتاب:( طوق الحمامة) يتحدث فيه عن الحب كعاطفة إنسانية معتمدًا في حديثه هذا على التجربة والملاحظة والتحليل النفسي واستخلاص النتائج.
إن تلك الطبيعة الجريئة؛ جعلته يقول ما يعتقد ويعبر عما يحس دون نفاق أو التواء أو خوف من الناقدين فهو اصرح من تكلم في هذا الجانب. وساعد في ذلك أيضًا تلك التي أتاحت له أن يتحدث عن الحب هذا الحديث فقد نشأ مرفها في بيت وزارة وسط النساء يطلع عليهن ويسمع أحاديثهن ويعرف منهن ما لا يعرفه غيره فعاش هذه العاطفة بنفسه وسجلها على غيره.
وهجرة ابن حزم من مكان إلى آخر وتنقله وتعرضه للأذى جعله كثير التحنان بصيرًا بالأسباب والأغراض وكل ذلك جعل حديثه في الطوق ذا لون وطعم متميز فهو حديث محلل يعلل الأحداث ويحددها ويؤكدها بما شاهد من وقائع يعدل السلوك ويبذل النصائح فهو لا تتعداه ثقافته الدينية في كثير مما يكتب ولذلك عقد في هذا الكتاب بابا عن الكلام في قبح المعصية وفضل التعفف؛ ليكون خاتمة الكلام الحض على طاعة الله – عز وجل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول الدكتور أحمد هيكل: (كان ابن حزم لا يكلف بالصنعة ويؤثر البساطة على التكلف والدقة على الحلية، تنعكس على أسلوبه ثقافته العقلية والدينية فيورد بعض مصطلحات الفلسفة والمنطق ويهتم بالعلل والمقدمات والنتائج كما يورد بعض المصطلحات الفقهية أو الدينية على وجه العموم).
وجرأة ابن حزم في سبيل الله جعلت منه لسانًا مدافعا وسيفًا مسلولا على أعداء الدين والمنافقين والمتاجرين به ويمثل ذلك في حديثه في الرد على التقفور ملك النصارى، وعتابه لصديقه ( أبو المطرف) وحديثه عن مذهبه وافتخاره به وعلمه وتضلعه فيه؛ وفي ذلك يقول:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع لجد علي ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائل: أغفلته وهو حاضر وأطلب ما عنه تجيء به الكتب!
هنالك يدري أن للبعد قصة وأن كساد العلم آفته القرب!
فيا عجبًا من غاب عنهم تشوقوا له ودنو المرء من دارهم ذنب
وإن مكانًا ضاق عني لضيق على أنه فسح مهامهه سهب
وإن رجالًا ضيعوني لضيع وإن زمانًا لم أنل خصبه جدب
ففي هذه القصيدة يبين أن أهل المشرق ذاع صيتهم وانتشرت شهرتهم وعلومهم، ولكن الكثير من علماء المغرب مع نبوغهم فى العلم إلا أن حظهم من الشهرة لم يكن مثل علماء المشرق. وهذا ما عبر عنه الإمام ابن حزم الأندلسي فى هذه الآبيات فعندما كان فى المغرب لم تكن شهرته بالدرجة ولكنه لما انتقل للمشرق ذاعت شهرته وصيته.
ويقول: وما عزَّني والحمد لله مطلبٌ من العلم مما أبقت العربُ والعجمُ
وقد كان "ابن حزم" يرتحل ويطوف ببلاد الأندلس، ثم استقر به الأمر في إشبيلية أمدًا في مدة حكم المعتضد بن عباد، ولما بلغ المعتضد في استبداده واجترائه على الطعن في الأمويين؛ هاجمه ابن حزم في غير هوادة، فأحرق المعتضد كتبه إيذاء له وانتقامًا منه، وإرضاء لبعض العلماء الذين ضاقت صدورهم بعلمه، ويظهر أن الإحراق لم يكن لكل الكتب ولم يكن لكل النسخ، فإن تلاميذه في كل مكان كانوا يستحفظون كتبه وينسخونها.
وقد تتابعت المطاردة بابن حزم إلى أن انتهى به المقام في بلدة لبلة من بلاد الأندلس وبها توفي عام 456ه. وقد حظي هذا العالم في حياته بكثير من الصفات وعديد من المواهب، مما مكنه من بلوغ المكانة العالية في مجالات العلم المتنوعة والمعارف المختلفة.
قراءة بلاغية في شعر ابن حزم:
لقد خلا شعر ابن حزم من التعقيد الذي يهلك المعنى ومن الغرابة التي توحش اللفظ ومن الابهام الذي لا يوصل إلى المراد، والقارئ البسيط يستطيع الوصول إلى ما يكتبه ابن حزم لا لأنه تافه لا يعبأ به ولكن لصراحة الرجل في التعبير ووضوح المراد وامتلاكه للمعنى الذي يريد الحديث عنه، وهذا واضح في كتابه (طوق الحمامة) وفيما سنعرض له من أشعار.
ونظرا لأن أغلب الشعر الأندلسي مقطوعات قصيرة تأتي تبعًا لمناسبات معينة وقد اتَّسعت هذه المناسبات حتى تمثل فيها أهم نواحي الحياة؛ لذا بعدت هذه المقطوعات عن المعاناة والمعوِّقات التي تعوق شاعر القصيدة.
كذلك ترى في هذا الشعر كثيرًا من المعاني المشرقية تنقل كما هي أحيانًا وقد يجدد فيها الشاعر.
وقد حرصوا على سهولة الألفاظ ووضوحها ورشاقة الأساليب وسماحتها حتى في الأغراض التي تقتضي بطبيعتها القوة والرصانة كالهجاء حيث يعتمدون فيه على التهكم والسخرية لا على اللفظ الجارح والكلمة الصاخبة.
ويمكن أن نمثل لذلك بقول ابن حزم لمن سبَّه:
تبغ سِواي امرأ يبتغي سبابك إنَّ هواك السِّباب
فإنِّي أبَيْتُ طلاب السفاه وضنَّت محلي عما يعاب
وقل ما بدا لك من بعد ذا فإنَّ سكوتي عنه خطاب
يتمثل في ذلك الأدب الإسلامي حيث أمر الشرع بالاعراش عن الجاهلين والصبر على الأذى.
وإنِّي وإن آذيتني وعققتني لمحتمل ما جائني منك وصابر
وابن حزم قوي الاستدلال جيد الاحتجاج والبرهنة على ما يقول فهو يتحدث عن الاجتماع والفرقة ثم يأتي بالعلة التي تقوِّي أمر الاجتماع بالأجساد وهي مزيد الاطمئنان واستأنس لذلك بطلب الخليل إبراهيم – عليه السلام- من ربه أن يريه كيف يحي الموتى {قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة: 260).
لئن أصبحت مرتحلا بجسمي فروحي عندكم أبدًا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى لذا سأل المعاينة الخليل
وهو يتأثر بجمال الظاهر فإن لامه أحد على ذلك أنشأ يقول:
وذي عذل فيمن سباني حسنه يطيل ملامي في الوجوه ويقول
أفي حسن وجه لا لم تر غيره ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظالما وعندي رد لو أشاء طويل
ألم تر أني ظاهري وأنني على مابدا حتى يقوم دليل
فابن حزم ظاهري المذهب؛ لذلك أخذ في هذا الذي سباه بالظاهر ولم يقبل لوم العذول فيه وهذا من حسن التعليل حيث أتى الشاعر بعلة مقبولة ومستحسنة تؤكد ما يقول وتبرهن على صحته. وهو يجانس في شعره لكن جناسه مقبول ويقابل بين معانيه مقابلة غير متكلفة وهذا قليل في شعره.
وقد ذكر ابن حزم في ثنايا أشعاره عددا من الأساليب البلاغية، وقد تضمنت معاني وفوائد بيانية قيمة موزعة على علوم البلاغة: " المعاني، والبيان، والبديع " وسنعمل في هذا البحث على اظهار هذه الأساليب وما تضمنته من فوائد من خلال اختيار عدد من الأبيات الشعرية من قصائد وردت لابن حزم؛ عسى أن نظهر شيئا من بلاغته وقدرته اللغوية والتعبيرية.
القصيدة الأولى
ماهية الحب.
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
وليست له غيرُ الإرادةِ علَّةٌ ولا سببٌ -حاشاهُ- يعلمُهُ أحدْ
إذا ما وجدنا الشيء عِلَّةَ نفسِهِ فذاكَ وُجُودُ ليس يَفْنَى على الأبَدْ
وإما وجدناه لشيءٍ خلافَهُ فإعدامُه في عَدْمِنا ما له وُجِدْ
جعل ابن حزم الحب اتصال بين النفوس، واستدل بقول الله- عز وجل-:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ...}(الأعراف:189).
فجعل علة السكون أنها منه، ولو كانت علة الحب حسن الصورة الجسدية؛ لوجب ألا يُسْتَحسنُ الأنقصُ في الصورة، ونحن نجد كثيرًا ممن يؤثر الأدنى، مع أنه يعلم فضل غيره، ولا يجد محيدًا لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق؛ لما أحبَّ المرء من لا يساعده ولا يوافقه؛ لذلك فهو يرى أن الحب يكون لشيء في ذات النفس، كما أن المحبة إذا كانت لسبب من الأسباب؛ فإنها تفنى بفناء ذلك السبب، فمن ودَّكَ لأمرٍ ولَّى مع انقضائه، وهذا ما أراد ابن حزم توضيحه في هذه الأبيات .
ولو أمعنا النظر في هذه القصيدة لوجدانها تتضمن عددًا من الأساليب البلاغية منها:
أسلوب الخبر:
الخبر هو: كل كلام يحتمل الصدق والكذب لذاته، بقطع النظر عن الذي ينطق بالخبر، ولكل خبر نسبتان: نسبة كلامية، ونسبة خارجية، فإن طابقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية نفيًا أو إيجابا؛ كان الخبر صادقًا، وإن لم تطابق كان كاذبًا، وينقسم الخبر باعتبار حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام: ابتدائي، وطلبي، وإنكاري، ومما ورد في هذه القصيدة:
الخبر الابتدائي: ويكون فيه المخاطب خالي الذهن من مضمون الخبر، ومسلما بالحكم الذي يتضمنه؛ لذلك يأتي الخبر خاليًا من المؤكدات.
ومن هذا القبيل قول ابن حزم:
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
حيث جعل وداده لمحبوبه من الأمور المسلمة التي لا تحتاج إلى مؤكدات؛ لأمه مما ينبغي ألا يشك فيه أحد ولا ينكره.
وقوله:
وليست له غيرُ الإرادةِ علَّةٌ ولا سببٌ حاشاهُ يعلمُهُ أحدْ
فهذا خبر لا يحتاج إلى مؤكدات في رأي ابن حزم؛ إذ إنه لا يرى علة للحب إلا الإرادة، ولا يظن أن يعلم أحد لذلك من سبب آخر.
الخبر الطلبي: "وهو الخبر الذي يتردد فيه المخاطب ولا يعرف مدى صحته؛ فيحسن عند ذلك أن نؤكد له الكلام بمؤكد واحد لنزيل منه الشك ونمحو التردد ويتمكن الخبر من نفسه".
ومنه قول ابن حزم:
إذا ما وجدنا الشيء عِلَّةَ نفسِهِ فذاكَ وُجُودٌ ليس يَفْنَى على الأبَدْ
فزيادة (ما)؛ للتأكيد على أن علة الشيء إذا كانت نابعة من نفس ذلك الشيء؛ فهذا دليل على أن وجود هذه العلة لا يفنى أبدًا، ويبقى بقاء ذلك الشيء نفسه.
ومنه قوله:
وإمَّا وجدناه لشيءٍ خلافَهُ فإعدامُه في عَدْمِنا ما له وُجِدْ
فزيادة (ما)؛ في هذا الموضع للتأكيد على أن علة الشيء إذا لم تكن نابعة من نفس ذلك الشيء، وكانت بخلاف ذلك فهي بمثابة العدم الذي لا وجود له في عالمنا.
التقديم والتأخير:
يقول الإمام عبد القاهرعن التقديم والتأخير: "باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك، أن قدم فيه شيء، وحوِّل اللفظ عن مكانه"
وقال عنه الزركشي:" هو أحد أساليب البلاغة؛ فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق"، ولا يتأتى في اللغة إلا لأغراض بلاغية منها: التخصيص، وتقوية الحكم، والعناية والاهتمام، وتقديم الأسبق زمًا والأعلى رتبة، وتقديم الكثير على القليل، والترقي من القليل إلى الكثير والتشويق ... وغيرها من الأغراض الخاصة حسب المقامات المختلفة.
ومما ذكره ابن حزم قوله:
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
حيث قدم "ودادي" وهو نكره مضافة إلى ياء المتكلم، بمعنى: (حبِّي لك) فأفاد ذلك أن وداده بمعنى حبه له مقدم على ما عداه من الأمور وهو الذي يبقى دون غيره لا ينقصه ولا يغيره شيءٌ.
القيد بالجار والمجرور:
الجار والمجرور مثل بقية القيود في زيادة الفائدة وتنميتها فالجار يفيد معنى فرعيًا جديدًا لا يوجد إلا بوجوده مثل "حضر المسافر" فإن هذه الجملة مفيدة ولكنها بالرغم من إفادتها (فيها) نقص معنوي فرعى فإذا قلنا: "حضر المسافر من القرية وأتينا بحرف الجر الأصلي "من" وبعده مجرور فإن بعض النقص يزول ويحل محله معنى فرعى جديد".
ومنه قول ابن حزم:
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
فقد قيد وداده بالجار والمجرور" لك"، فأفاد أن هذا الوداد خاص بمحبوبه دون غيره؛ وذلك بما توحيه (اللام) من معنى الاختصاص، كما في قوله -تعالى-: { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286).
وقوله:"بشيء" قيد بالجار والمجرور، أفاد أن وداده لا ينقص، أو يزيد بشيء مهما كان هذا الشيء صغيرًا أو كبيرًا ولذلك جاء به منكَّرًا .
الإيجاز:
و"هو التعبير عن المراد بكلام قصير ناقص عن الألفاظ التي يؤدَّى بها عادة في متعارف النَّاس، مع وفائه بالدَّلالة على المقصود".
أي أن الإيجاز معناه: التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة مع الإبانة والإفصاح وربما يكون بحذف شيء في الكلمة أو الجملة مع عدم الإخلال بالمعنى وربما يكون بدون حذف، فالأول إيجاز الحذف والثاني إيجاز القصر.
ومن أمثلة إيجاز القصر عند ابن حزم؛ قوله:
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
أي: ولم يزد بشيء فحذف الجار والمجرور هنا لدلالة الأول عليه، وللضرورة الشعرية كذلك.
القيد بالشرط: يأتي تقييد الجملة بالشرط لأغراض وأسرار بلاغية يقتضيها المقام، قال الخطيب: (وأما تقييده – أي الفعل – بالشرط فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة أدواته من التفصيل وقد بُيِّن ذلك في علم النحو). والمقصود بالفعل المقيَّد هنا المسند الواقع في جملة الجزاء؛ قال الدسوقي:(أي الفعل الواقع مسندًا في جملة الجزاء نحو: إن جئتني أكرمتك، فالشرط مقيِّد لأكرمتك).
وقد ربط البلاغيون معرفة النكات البلاغية بمعرفة المراد من الأدوات الشرطية وبينوا أن هذه الأدوات معرفة تفصيلًا في علم النحو.
فمعرفة استعمال الأداة وما تفيده من معان هو الداعي إلى استعمالها في المقام الخاص بها ومن ذلك أن "متى" للزمان "وأين" للمكان "ومن" لما يعقل و"ما" لما لا يعقل، وهذه أمور تكفَّل بشرحها علم النحو، فلم يتعرض لها البلاغيون إلا مسًا خفيفا
وصبَّوا دراساتهم على أدوات ثلاث هي" إِنْ ، وإِذَا، ولَوْ " وعللوا ذلك بأن فيها أبحاثًا كثيرة لم يتعرض لها في علم النحو" وهى كلمة موفقة منهم؛ ذلك لأن هذه الأدوات لها دواع ومقتضيات، وقد تخرج عن معناها الأصلي في بعض المقامات فتحتاج إلى دراسة عامة لمعرفة هذه الدواعي، كما تحتاج إلى دراسة السياقات المختلفة التي ترد فيها؛ لأن السياقات قد توحي بعطاءات أخرى غير المتفق عليها قاعدة.
وقد بيَّنوا أن ( إِنْ ، وإِذَا ) تتفقان في أن الشرط فيهما في الاستقبال. بمعنى "أن فعل الشرط فيها لابد أن يكون مستقبل المعنى سواء كان ماضي اللفظ أومضارعه وهذا متفق عليه. لكنهما يفترقان بعد ذلك في أن ( إِنْ ) الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط، ولذا فهي لا تقع في كلام الله - تعالى- على الأصل لأنه عالم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، فيستحيل في حقه - تعالى- الشك والتردد في شيء ما، لكنها تقع حكاية عن أحد أو على ضرب من التأويل. أما (إذا) فالأصل فيها جزم المتكلم بوقوع الشرط في المستقبل وهذا الجزم بحسب اعتقاد المتكلم؛ لأن الشرط مطلقا مقدر الوقوع في المستقبل. وإذا كانت "إن، وإذا " للشرط في المستقبل فإن ( لَوْ) بخلافهما فهي للشرط في الماضي.
ولذا يقع الماضي غالبا مع ( إذا)؛ لأن الحكم فيها مقطوع بوقوعه، ولا يقع مع ( إن) إلا نادرًا؛ لأن الحكم فيها مشكوك به. وقد اجتمع الاستعمالان في قوله - تعالى-: ( فَإذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى ومَن مَّعَهُ أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ) [الأعراف : 131] أتى في جانب الحسنة بلفظ (إذا) لأن المراد بالحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به، ولذلك عرفت تعريف الجنس وجوز السكاكي أن يكون تعريفها للعهد ... وأتى في جانب السيئة بلفظ (إن) لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكَّرها.
ومن التقييد بالشرط عند ابن حزم:
إذا ما وجدنا الشيء عِلَّةَ نفسِهِ فذاكَ وُجُودُ ليس يَفْنَى على الأبَدْ
وإمَّا وجدناه لشيءٍ خلافَهُ فإعدامُه في عَدْمِنا ما له وُجِدْ
فقد قيد بقاء الشيء وعدم فنائه بأن يكون علة في نفسه، وجاء في جانب هذا القيد ب" إذا" لأن الحكم فيها مقطوع بوقوعه حسب اعتقاد المتكلم؛ فناسب هذا ما اعتقده ابن حزم وذهب إليه من أن المحبة تكون لشيء في ذات النفس، وهي التي يكتب لها البقاء، أما إذا كانت المحبة لسبب من الأسباب؛ فإنها تفنى بفناء ذلك السبب؛ ولذلك جاء في جانب المحبة التي تكون لسبب من الأسباب غير النفسية ب"إن" ليبين أنها مما لا يجب أن تكون؛ لأنَّ من ودَّك لأمر ولَّى عنك مع انقضاء ذلك الأمر.
الاعتراض:
و"هو كل كلام أُدخِلَ فيه لفظٌ مفردٌ أو مركب، لو سقط لبقي الأول على حاله". وقد أشار صاحب الخصائص إلى دلالة الاعتراض فقال:"اعلم أن هذا القبيل من هذا العلم كثير قد جاء في القرآن، وفصيح الشعر، ومنثور الكلام، وهو جار عند العرب مجرى التأكيد" ويقول في موطن آخر:" والاعتراض في شعر العرب ومنثورها كثير وحسن ودال على فصاحة المتكلم وقوة نفسه".
ومن شواهد الاعتراض عند ابن حزم قوله:
وليست له غيرُ الإرادةِ علَّةٌ ولا سببٌ –حاشاهُ- يعلمُهُ أحدْ
فقوله:(حاشاه)، دليل على أنه يعزل الحب عن أي سبب وعلة، إلا علة الإرادة؛ فهي دون غيرها للحب علة وسبب.
ومن المحسنات البديعية في هذه القصيدة:
الطباق:
وهو: فن من فنون البلاغة لا يواتي إلا من برعوا في نظم الشعر، وهو: أن تأتي لفظة ونقيضها في بيت واحد من الشعر، وله من الصور صور كثيرة تختلف
حسب اعتبار التقسيم، فهو باعتبار نوع كلمتي الطباق ينقسم إلى:
- طباق بين اسمين، مثل { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } (الرعد: 16).
- طباق بين فعلين، مثل { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ }(آل عمران: 26).
- طباق بين حرفين، مثل { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(البقرة: 228).
ومنه قول ابن حزم:
ودادي لك الباقي على حسْبَ كونِهِ تناهى فلم ينقُص بشيءٍ ولم يَزِدْ
الطباق بين ( لم ينقص- لم يزد)، فقد قابل بين عدم النقصان، وعدم الزيادة؛ فأكد بهذه المقابلة على أن وداده ثابت لا يتغير بزيادة أو نقصان، مهما تغيرت الظروف، أو تعددت الأسباب؛ فهو الود الباقي الذي لا يعتريه تغيير.
القصيدة الثانية
علامات الحب.
أقمت إلى أن جاءني الليل راجيًا لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأملْ
فأيأسني الإظلام عنك ولم أكن لأيأس يوما إن بدا الليل يتَّصلْ
وعندي دليل ليس يكذب خُبْرُهُ بأمثاله في مُشكِلِ الأمر يُستدلْ
لأنك لو رُمْتَ الزِّيارَةَ لم يكنْ ظلامٌ ودام النُّورُ فينا ولم يَزلْ
الاستعارة:
وهي: مشتقة من العارية، وهي نقل الشيء من شخص إلى آخر، وفي الاصطلاح: استعمال اللفظ في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة بين المعنى الأصلي للكلمة، والمعنى الذي نُقلت إليه، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
قال السكاكي:" الاستعارة هي: أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدَّعيًا دخول المشبه في جنس المشبه به دالا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخص
المشبه به".
ومن شواهد الاستعارة قول ابن حزم:
أقمت إلى أن جاءني الليل راجيًا لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأملْ
شبه الليل بالإنسان، حذف المشبه به، وذكر شيئا من لوازمه، وهو الفعل:
(جاء)؛ لأن الذي يأتي، هو الإنسان وليس الليل، وذلك على سبيل الاستعارة المكنية.
وهي استعارة تبعية مرشحة، تبعية؛ لأن اللفظ المستعار اسم مشتق وهو الفعل (جاء)، ومرشحة؛ لأن اللفظ المستعار(جاء) يلائم المشبه به وهو الإنسان.
المجاز العقلي:
وهو: أسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، يُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ هَذِهِ الُّلغَةِ، وقُدرتِهَا عَلَى تَجَاوزِ حدودِ الحقيقةِ إِلَى الخَيَالِ. وقَدْ قَالَ فِيهِ عبدُ القاهِرِ الجرجانيّ: "هَذَا الضَّربُ مِنَ المَجَازِ عَلَى حدَّتِهِ، كَنْزٌ مِنْ كنُوزِ البَلاغَةِ، ومادةُ الشَّاعر المفلقِ، والكاتبِ البَليغِ فِي الإبداعِ والإحسَانِ والاتِّساعِ فِي طَريقِ البَيَانِ".
والمجاز العقلي هو" إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير فاعله الحقيقي مع وجود قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، أو هو إسناد الفعل أو ما شبهه إلى غير ما هو له أصالة".
ومنه قول ابن حزم:
وعندي دليل ليس يَكذِبُ خُبْرُهُ بأمثاله في مُشكِلِ الأمر يُستدلْ
فقد أسندَ الكذب إلى الخُبْر، بمعنى الإخبار والعلم، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الخابِر فأصله ليس يكذبُ الخابِرُ خُبْرَه، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الخَابِر، وأسندَ الفعلَ إلى الخُبْرِ وهو مصدرُ الفاعلِ الحقيقيّ, ولِهَذَا كانت علاقة الإسنادَ المجازيَّ هُنَا هي المصدريةٌ".
القصيدة الثالثة
علامات الحب
فليس لعيني عند غيرك موقفٌ كأنك ما يحكون من حَجَرِ البَهْتِ
أُصرِّفُها حيثُ انصرفتَ وكيفما تقلبْتَ كالمنعُوتِ في النحو والنعت
- البيت الأول: فيه تشبيه، حيث شبه محبوبه بحجر البهت بجامع الشهرة والسرعة في قضاء الحاجات، وهو تشبيه محسوس بمحسوس من حيث الطرفين، ومرسل من حيث الأداة، ومجمل من حيث وجه الشبه، حيث لم يذكر فيه وجه الشبه.
والتشبيه هو: "الدلالة على مشاركة أمر لأمر آخر في معنى بأداة ظاهرة أو مقدرة".
وفائدته: أن الصفة المراد اثباتها للموصوف، إذا كانت في شيء آخر أظهر، جعل التشبيه بينهما وسيلة لتوضيح الصفة، كما تقول: (زيد كالأسد) حيث تريد اثبات الشجاعة له، إذ هي في (الاسد) أظهر.
- البيت الثاني: فيه تشبيه، حيث شبه عينه حين متابعتها لمحبوبه بمتابعة النعت للمنعوت في علم النحو، ووجه الشبه التلازم والتوافق في كل الأمور، وهو تشبيه محسوس بمحسوس من حيث الطرفين، ومرسل من حيث الأداة، ومجمل من حيث وجه الشبه؛ حيث لم يذكر فيه وجه الشبه.
القصيدة الرابعة
علامات الحب
أهوى الحديث إذا ما كان يُذكرُ لي فيه ويَعبقُ لي عن عنبرٍ أَرجِ
إن قال لم أستمعْ مِمَّنْ يُجَالسُني إلى سِوى لفظهِ المستظرَفِ الغَنِجِ
ولو يكون أميرُ المؤمنين معي ما كنتُ من أجلهِ عنه بمُنعَرِجِ
فإن أقُمْ عنه مُضطرًّا فإنِّي لا أزالُ مُلتفتًا والمشيُ مشيُ وَجِي
عيناي فيه وجسمي عنه مُرْتَحِلُ مثلُ ارْتِقَابِ الغَريقِ البَرَّ في اللُّجَجِ
أَغَصُّ بالماءِ إنْ أَذْكر تَبَاعُدَهُ كمنْ تثاءبَ وَسطَ النَّقعِ والرََّهَجِ
وأنْ تَقُلْ مُمكنٌ قَصْدُ السَّماءِ أَقُلْ نَعمٌ وإنِّي لأَدري مَوْضِعَ الدَّرَجِ
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
1- التقييد بالشرط:
- تقييد الشرط ب (إذا) في قوله:
أهوى الحديث إذا ما كان يُذكرُ لي فيه ويَعبقُ لي عن عنبرٍ أَرجِ
فقد قيد حبه للحديث، إذا ما كان يذكر فيه محبوبه؛ بأداة الشرط (إذا) التي تستعمل في الشرط المقطوع بوقوعه، أو الذي يظن ظنا قويا وقوعه، ، فأفاد التقييد بالشرط هنا شدة رغبة ابن حزم في سماع سيرة مَنْ يحب.
- تقييد الشرط ب (لو) في قوله:
ولو يكون أميرُ المؤمنين معي ما كنتُ من أجلهِ عنه بمُنعَرِجِ
وفي تقييد الفعل بأداة الشرط (لو) الدالة على امتناع الجزاء الناشئ عن امتناع الشرط دليل على أن هذا الأمر المستبعد حتى لو تحقق، وحظي بصحبة أمير المؤمنين؛ فإن هذا الشرف وذلك المقام لا يثنيه عن متابعته لمحبوبه، وانشاغله بالنظر إليه، والتفكير فيه.
- تقييد الشرط ب (إن) في قوله:
فإن أقُمْ عنه مُضطرًّا فإنِّي لا أزالُ مُلتفتًا والمشيُ مشيُ وَجِي
جاء ب (إن) الشرطية المشعرة بعدم تحقق الوقوع؛ إشعارا بأن هذا الفعل مما ينبغي ألا يقع منه، حتى وإن وقع منه هذا الفعل فإنه يكون في الاضطرار، ومع ذلك يظل قلبه وعقله متعلقين به، ويمشي مشي وجي؛ وهو الذي يتعذر عليه المشي.
وفي قوله:
أَغَصُّ بالماءِ إنْ أَذْكر تَبَاعُدَهُ كمنْ تثاءبَ وَسطَ النَّقعِ والرََّهَجِ
قيد الشرط ب (إن)؛ للإشعار بأنه لا يريد أن يأتي على خاطره فكرة الابتعاد عن محبوبه، وأن هذا الأمر مستبعد بالنسبة إليه، فإذا ما حدث ذلك وتذكر أنه من الممكن أن يبتعد عنه فإن ذلك يصيبه بحالة من الإعياء، تجعله يَغصُّ حتى إذا شُربِ الماء.
القصيدة الخامسة
الإذاعة
ولا تسع في الأمر الجسيم تهازُؤًا ولا تسع جهرًا في اليسير تريدُهُ
وقابلْ أفانينَ الزَّمان متى يَرِدْ عليك فإن الدَّهر جمٌّ ورودُهُ
فأشكالها من حُسن سَعيِكَ يَكْفِكَ اليسيرَ يسيرُهُ والشديدَ شديدُهُ
أَلَمْ تبُصر المصباحَ أوَّلَ وَقْدِهِ وإشعالِهِ بالنَّفخِ يُطفا وقُودُهُ
وإن يتصرَّم لفحُهُ ولهيبُهُ فنفخُك يُذْكيه وتبدو مُدُودُه
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
أسلوب النهي:
و"هو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام وله صيغة واحدة وهو المضارع المقرون بلا الناهية"، وورد النهي في هذه القصيدة في موضعين، وكان الغرض من النهي فيهما النصيحة والإرشاد الموضع الأول: (ولا تسع في الأمر الجسيم تهازُؤًا)؛ حيث نصحه ألا يستهين بالأمور العظيمة، ولا يقلل من شأنها
الموضع الثاني :( ولا تسع جهرًا في اليسير تريدُهُ)؛ فهو ينهاه عن السعي وراء الشيء القليل الحقير ويجاهر في طلبه؛ فيفتضح بذلك أمره وينكشف سره.
أسلوب الأمر:
و"هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام" إلا أن الأمر في هذه القصيدة جاء في سياق التوجيه والنصيحة والإرشاد؛ ففي هذا الأمر نصيحة وإرشاد بمقابلة أفانين الزمان بأشكالها، فإن اليسير من حسن السعي يقابل اليسير من أفانين الزمان، والشديد يقف في وجه الشديد من أفانينه.
أسلوب الاستفهام:
وهو" طلب العلم بشيء لم يكن معلومًا من قبل"
وجاء الاستفهام بمعنى التقرير والإثبات في قول ابن حزم:
أَلَمْ تبُصر المصباحَ أوَّلَ وَقْدِهِ وإشعالِهِ بالنَّفخِ يُطفا وقُودُهُ
وإن يتصرَّم لفحُهُ ولهيبُهُ فنفخُك يُذْكيه وتبدو مُدُودُه
فالمصباح في أول وَقْدِهِ يكون ضعيفًا من السهل إطفاؤه بقليل من الهواء، أمَّا إذا اشتعل وتمكنت النار من فتيله؛ فبالنفخ فيه تزكو هذه النار ويزيد اشتعالها، وهذه حقيقة ثابتة، لا تخفى أحد.
والتقرير: هو طلب الإقرار أو هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأداة من أدوات الاستفهام، والتثبيت بمعنى التحقيق.
التكرار:
وهو" دلالة اللفظ على المعنى مكررًا"
ومنه قول ابن حزم:
ولا تسع في الأمر الجسيم تهازُؤًا ولا تسع جهرًا في اليسير تريدُهُ
فتكرار النهي في قوله:( ولا تسع، ولا تسع)، غرضه استمالة المخاطب وترغيبه في قبول النصح والإرشاد.
القصيدة السادسة
الاعتزاز بالعلم
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ وقولوا بعلم كي يرى الناس بدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغون للَه من ستر
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
الاستعارة:
حيث شبه علمه الذي وضعه في الكتب ب إنسان، حذف المشبه به وبقي شيء من لوازمه يشير ويدل عليه وهو الأفعال:(يسير)، و(ينزل)، و(يدفن)على سبيل الاستعارة المكنية، وهي استعارة تبعية مرشَّحة، تبعية لأن اللفط المستعار اسم مشتق وهو الأفعال:(يسير)، و(ينزل)، و(يدفن)، ومرشحة؛ لأن الألفاظ المستعارة تلائم المشبه به المحذوف وهو الإنسان.
فلقد كان ابن حزم عالما، يحمل علمه ويجادل من خالفه فيه، على استرسال في طباعه، وبذل بأسراره، واستناد على العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ }(آل عمران: 187) فنفرت عنه القلوب وأُبْعِدَ عن وطنه وتوغَّل في البادية سنة 456ه وفى في ذلك يبث علمه في الناس ويفقههم. ومما نُكِبَ فيه حرق مؤلفاته في حياته وتمزيقها علانية من قِبَلِ أعدائه.
أسلوب الأمر:
و"هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام" إلا أن الأمر في هذه القصيدة جاء في سياق التوجيه والنصيحة والإرشاد حيث يقول: دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ ، جاء الأمر هنا بدعوتهم لترك التحدث في إحراق الكتب، والاهتمام بما هو أولى وأهم وهو نشر ماتحويه هذه الكتب من العلم ولذا أمرههم بقوله: وقولوا بعلم كي يرى الناس بدري.
القصيدة السابعة
باب الوصل
كأنها حين تخطو في تأودها قضيب نرجسة في الروض مياس
كأنما خلدها في قلب عاشقها ففيه من وقعها خطر ووسواس
كأنما مشيها مشي الحمامة لا كد يعاب ولا بطء به باس
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
التشبيه: وهو " بيان أن شيئا أو أشياء شاركت غيرها في صفة أو أكثر، بأداة هي
الكاف أو نحوها، ملفوظة، أو ملحوظةً".
- في البيت الأول: المشبه: هذه المرأة حين تمشي المشبه به: نبات النرجس وهو يتمايل وسط البستان، ووجه الشبه:(في تأودها) أي؛ رقة القوام والتمايل في خفة ورشاقة، فهو تشبيه محسوس بمحسوس من حيث الطرفين، ومرسل من حيث الأداة، ومقيد من حيث التقييد والاطلاق؛ حيث قيد المشبه بالظرف (حين تخطو)، وقيد المشبه به بالجار والمجرور(في الروض)، وهو تشبيه مفصل من حيث وجه الشبه؛ حيث ذكر فيه وجه الشبه.
- في البيت الثالث: شبه مشيتها بمشي الحمامة في عدم الاجتهاد في السير مع عدم البطء فيه؛ فهي ليست بالمتعجلة في السير فيعاب عليها هذا، وليست بالمبطئة فيظن بها مرض، وإنما مشيتها متوسطة بين البطء والاسراع؛ حيث تظهر مفاتنها ورشاقة عودها حين تتمايل فتأخذ القلوب وتسحر العقول.
القصيدة الثامنة
باب السلو
إذا ما رَنَّتْ فالحيُّ مَيْتٌ بلحْظها وإنْ نَطقت قلتُ السِّلامُ رِطابُ
كأنَّ الهوى ضيفٌ ألمَّ بمُهجتي فلحمى طعامٌ والنجيعُ شَرابُ
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
التقييد بالشرط:
تقييد الشرط ب (إذا)، و(إن) في قوله:
إذا ما رنَّتْ فالحي ميت بلحظها وإن نطقت قلت السلام رطاب
فقد قيد الفعل (رَنَّتْ)، بأداة الشرط (إذا) التي تستعمل في الشرط المقطوع بوقوعه، أو الذي يظن ظنا قويا وقوعه، ، فأفاد التقييد بالشرط بأنَّ محبوبته إذا نظرت افتتن بها كل من رآها؛ وهذا كناية عن شدَّة جمالها، ومجيء الشرط مقيدا ب إذا دليل على أنها كانت تمر في الحي، فتميت بنظرتها الفاتنة كل عين نظرت إليها.
وقيد الفعل (نطقت)، بأداة الشرط (إن)، المشعرة بعدم تحقق الوقوع؛ وهذا دليل على أنها وإن كانت تمر من الحي إلا أنها كانت تمشي في سكينة، فلا يسمع لها صوتًا وهذا من شأنه أن يزيد في اللوعة، ويشعل حرارة الحب في القلوب، أما إذا نطقت كان أثر صوتها أشد وقعا من الحجارة على القلوب.
التشبيه:
في قوله:
كأنَّ الهوى ضيفٌ ألمَّ بمُهجتي فلحمى طعامٌ والنجيعُ شَرابُ
شبه الهوى؛ وهو الحب، بالضيف الذي يأتي، فيتسلَّى به المرء ويأتنس، ولكن هذا لا يدوم طويلا، فسرعان ما يغادر هذا الضيف تاركًا وراءه فراغًا ووَحْشَةً.
القصيدة التاسعة
باب: من لا يحب إلا مع المطاولة
كذب المدعي هوى اثنتين حتما مثل ما في الأصول أُكذِبَ مَاني
ليس في القلب موضع لحبيبي ن و لا أحدث الأمور بثاني
فكما العقل واحدٌ ليس يدري خالقا غير واحد رحمان
فكذا القلب واحد ليس يهوى غير فرد مباعد أو مدان
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
التشبيه:
- في البيت الأول حيث شبَّه الذي يدعي حب اثنين ب(ماني)، مؤسس مذهب المانوية، وهو قائم على الاثنينية، في أن كلا منهما على الكذب.
- في البيت الثاني، والثالث حيث شبَّه القلب بالعقل في أن كلا منهما لا يتسع، إلا لشيء واحد، فكما أن العقل لا يقبل الاعتراف إلا بإله واحد، فكذا القلب لا يهوى، أو يحب إلا محبوبًا واحدًا.
فابن حزم يرى أن ما يقع من أول وهلة فبعض أعراض الاستحسان الجسدي، واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، وهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة فإذا فُصلت الشهوة وتجاوزت هذا الحد ووافق الفصل اتصالا نفسانيا تشترك فيه الطبائع مع النفس يسمى عشقًا.
ومن هنا دخل الخلط على من يزعم أنه يحب اثنين ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة ، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس الحب فليس في المُبْتَلى به فضلٌ يصرفه في أسباب دينه ودنياه فكيف بالاشتغال بحبٍ ثان؟!
القصيدة العاشرة
أقمنا ساعةً ثم ارتحلنا وما يغني المشوق وقوف ساعة
كأنَّ الشملَ لم يك ذا اجتماع إذا ما شتت البينُ اجتماعه
من الأساليب البلاغية في القصيدة:
الطباق:
فبين "أقمنا" و"ارتحلنا"، طباق بين فعلين، طباق إيجاب، فالطباق هنا قد أضاف جمالا في الأسلوب، وروعة في المعنى؛ لأن جرس اللفظة المضادة يؤثر تأثيرًا قويًا في السامع ويأخذ بمسامعه؛ لأنه يضيف رونقًا وجمالا على اللفظة ومعناها فيستعذبه السامع.
وكذلك بين( الشَّمْل) بمعنى الاجتماع والقرب و( البَيْن) بمعنى الفراق والبعد؛ طباق بين اسمين، طباق إيجاب.
وفي قوله:
إن كانت الأبدان بائنة فنفوس أهل الظُّرف تأتلف
يا رب مؤتلفين قد جمعت قلبيهما الأقلام والصحف
طباق بين مختلفين: (بائنة) وهو اسم، و( تأتلف) وهو فعل.
وهذا قريب من قوله – صلى الله عليه وسلم- :" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " فكأنه (رضي الله عنه) ضمنه هذا البيت.
مما سبق يمكننا القول:
إذا كان ابن حزم قليل التصويرفإن صوره محكمة، وتشبيهاته قوية موثقة فهو عندما يتحدث عن حبيب كان في حمايته له درعًا سابغة تردُّ عنه عاديات الزمن وفواجعه لقد كان نورًا له عندما تظلم الحياة في وجهه فلما نأى وبعد وتولى ورحل تبدلت الحال وهذه سنة الحياة فنراه يقول:
قد كنت ألقى زماني منه مدرعًا على تغول أيامي وأزماني
درعًا يقول الردى من أجلها حذرًا ما شأنك اليوم يا هذا وما شأني
فالآن أظلمت الدنيا لغيبته فالليل عندي وغير الليل سيَّان
وحق لي ذلك إذ في كل رشاقة كانت تلوح لعيني منه شمسان
فالآن أعدمني أضواهما قدر تجري بأحكامه فينا الجديدان
ولكنه رغم بعده عن عينه يحل قلبه، فهو الغائب الحاضر، بعيد قريب:
قد كان منك فؤادي حاسدًا بصري والآن يحسد فيك القلب عينان
فإنك ترى في هذا الشعر: تغول الأيام والحبيب المصادق كالدرع حماية، وكالشمس نورًا حتى أنه لقربه منه كان الفؤاد يحسد البصر لتمتعه بالنظر إليه، ولما تبدلت الحال، وحلَّ بالقلب ونأى عن العين؛ صارت العين تحسد القلب؛ وكيف لا؟ فهو الدنيا يملكه ملك سليمان لها:
حتى لقد صار دهري فيك يحسدني فبان عني مغلوبًا وأنآني
عذرت عنك لَعَمْري كلَّ ذي حسد من ليس يحسد في دنيا سليمان
ومحن الشاعر التي تعرض لها كثيرة؛ فهذا يوم كحد السيف، وهذه أمور كأمواج البحر وقد أعد لذلك جلدًا وحزمًا كالجسور وآراء المصابيح.
وَيَومٍ كَحَدّ السَّيفِ لَيسَ بِثَابِتٍ عَلَيهِ جَلِيدٌ لاَ وَلاَ مُتَجَلِّدُ
لَقِيتُ شِبَاهُ وَهوَ خَمرٌ مُؤجَّجٌ وَأقلَعتُ عَنهُ وَهوَ فَخرٌ مُخَلَّدُ
أمُورٌ كَأموَاجٍ البُحُورِ تَصَادَمَت عَلَيهِنَّ سِربَالٌ مِنَ اللَّيلِ أكبَدُ
عَبَأتُ لَهُ جِسرًا مِنَ الحَزمِ مُحكَمًا وَمِصبَاحَ رَأيٍ نورُهُ يَتَوَقَّدُ
فَأفقَدتُّ غَرقَاهَا وَنَوَّرتُ لَيلَهَا وَقَرَّبتُ مِنهَا كُلَّ مَأ كَانَ يَبعُدُ
وهو مهتد في تصوير تلك الأمور بتصوير القرآن الكريم لأعمال الكفار بأنَّها { كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍٍ} (النور: 40).
وهو يكرر معنى اعتزازه برأيه وعلمه وأنهما الدرع الذي يقيه تقلبات الزمن ويفخر بهذا أيما فخر:
لكن إذا أشكلت دنيا معضلة قابلتها بسنى ذهني وحسبك بي
من فكرتي لي عين لا تغيض ومن ماضي لساني مضى الشهب
فلننظر هنا إلى قوله:( حسبك بي) وتشبيه فكره بالعين الفياضة، وحديث لسانه بأنه ذائع مشتهر ذيوع الشهب وشهرتها. ورغم أنه كرر في (ماضي – يمضي – مضى) في شطر واحد إلا أننا لا نشعر بثقلٍ ولا نحس بتنافرٍ؛ ذلك أنه غاير بين الكلمات فأكسبها خفة على اللسان ، وحسن وقع على الآذان.
ولا ينسى دائما أثناء اعتزازه بنفسه، فقره إلى ربه، وخوفه من لقائه.
فإن أضفت إلى ذا الحظ من عملي شيئا أفوز به في يوم منقلب
فقد حصلت على الآمال أجمعها وخاب من في سوى ذا كان ذا تعب
وبقراءتنا لقصيدته التي يخاطب فيها صديقه (أبا المطرف) نجد حديثه عن علمه بالشعر، والتاريخ، والفلسفة، والديانات، والحديث، والفقه، والكلام، واللغات، والعروض، والبلاغة.
يقول:
وما عزَّني والحمد لله مطلبٌ من العلم مما أبقت العجمُ والعربُ
لذا يعاتب أبا المطرف في سماعه عنه قائلا:
أعيذك أن ترتاب في أني الذي أتى سابقًا والكل ينحر أو يحبو
أمثلك يعشو عن مكاني ويمتري بأني من أفلاك ذا الأدب القطب
وحاشاي أن يمتد زهو بمنطق وأن يستفز الحلم من تولي العجب
ولكن لي في يوسف خير أسوة وليس على من بالنبي انتسى ذنب
وإن رجالًا ضيعوني لضيعٌ وإن زمانًا لم أنل خصبه جدب

الخاتمة:
بعد هذا العرض لعدد من القصائد الشعرية للإمام ابن حزم وقراءة ما فيها من سمات بلاغية؛ تبين لنا أن هذه القصائد تتضمن عددا كبيرا من المسائل البلاغية موزعة على علم المعاني والبيان والبديع؛ مما يظهر بلاغة الإمام وخبرته وحكمته التي تمتع بها، وتوضح أن هذا العالم الجليل إلى جانب كونه عالمًا فقيهًا، كان شاعرًا عالمًا بعلوم العربية، ومستخدمًا للأساليب البلاغية.

فهرس المصادر والمراجع
- الأدب الأندلسي، أحمد هيكل، الطبعة السابعة، مكتبة دار المعارف- مصر.
- الإيضاح في علوم البلاغة – المعانى، والبيان، والبديع، للخطيب القزوينى ت 739ه مكتبة الآداب – تحقيق الدكتور عبد القادر حسين –ط أولى – 1416ه - 1996م.
- البداية والنهاية، ابن كثير ، ط 1978- دار الفكر- بيروت.
- البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ج 3، ص223، طبعة : عيسى الحلبي.
- البلاغة العربية (أسسها وعلومها وفنونها)، عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني- ط دار القلم- دمشق، الدار الشامية بيروت، ط 1 ، 1416ه، 1996م.
- البلاغة الواضحة،(البيان، المعاني، البديع)، علي الجارم، مصطفى أمين، ط دار المعارف، 2010م.
- حاشية الدسوقى– ضمن شروح التلخيص– دار السرور- بيروت- بدون تاريخ 2/35.
- الخصائص، ابن جني، ج 1، ص 335، دار الكتاب العربي، بيروت.
- دلائل الإعجاز، عبد القاهرالجرجاني النحوي، (المتوفى 471ه أو 474ه)، تحقيق:محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة.
- ديوان الإمام ابن حزم الظاهري، صبحي رشاد عبد الكريم، مكتبة دار الصحابة للتراث- طنطا- مصر.
- رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: احسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية منقحة، 1987.
- رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: احسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية منقحة، 1987.
- شرح البلاغة، محمد صالح بن العثيمين، ص 93، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، ط أولى، 1434ه.
- شروح التلخيص– دار السرور – بيروت – لبنان 2/35 .
- طوق الحمامة في الألفة والألاف، ابن حزم الأندلسي، المتوفى 456 ه، مكتبة عرفة بدمشق.
- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح، بهاء الدين السبكي، ضمن شروح التلخيص: 2/38. ط دار السرور – بيروت – لبنان.
- لسان العرب لابن منظور-تحقيق يوسف خطاب ط دار الجيل ودار لسان العرب بيروت 1408ه- 1988م.
- المثل السائر، ابن الأثير، ج 3 ، ص 40، تحقيق: أحمد الحوفي، بدوي طبانة، دار النهضة، مصر.
- مختصر السعد– ضمن شروح التلخيص– دار السرور- بيروت- بدون تاريخ 2/38 .
- معترك الأقران، السيوطي، تحقيق: د. محمد البجاوي، دار الفكر العربي، بيروت.
- معجم المصطلحات البلاغية، د.أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1986م.
- مفتاح العلوم للسكاكي، تحقيق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية – بيروت، ط 1، 1983م.
- من بلاغة القرآن، د. نعمان علوان- د.محمد علوان، ص 148، ط 4، 2009م.
- النحو الوافي، عباس حسن- ط دار المعارف ط 12 بدون تاريخ.